فصل: سئل عن هذه الأحاديث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مـوسى وهو يصلي في قبره؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/  وَسُئِلَ الشَّيخُ ـ رَحمَهُ اللَّه‏:‏

هل يتناسل أهل الجنة‏؟‏ والولدان، هل هم ولدان أهل الجنة‏؟‏ وما حكم الأولاد وأرواح أهل الجنة والنار إذا خرجت من الجسد، هل تكون في الجنة تنعم، أم تكون في مكان مخصوص إلى حيث يبعث اللّه الجسد‏؟‏ وما حكم ولد الزنا إذا مات، يكون من أهل الأعراف، أو في الجنة‏؟‏ وما الصحيح في أولاد المشركين، هل هم من أهل النار أو من أهل الجنة‏؟‏ وهل تسمى الأيام في الآخرة كما تسمى في الدنيا مثل السبت والأحد‏؟‏

فَأَجَـاب‏:‏

الولدان الذين يطوفون على أهل الجنة خَلْقٌ من خَلْق الجنة، ليسوا بأبناء أهل الدنيا، بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة يكمل خلقهم كأهل الجنة على صورة آدم، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، في طول ستين ذراعًا، وقد روى ـ أيضا ـ أن العرض سبعة أذرع‏.‏

وأرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار، تنعم أرواح المؤمنين، وتعذب أرواح الكافرين، إلى أن تعاد إلى الأبدان‏.‏

/وولد الزنا إن آمن وعمل صالحًا دخل الجنة، وإلا جوزي بعمله كما يجازى غيره، والجزاء على الأعمال، لا على النسب، وإنما يذم ولد الزنا؛ لأنه مَظنَّة أن يعمل عملًا خبيثًا، كما يقع كثيرًا‏.‏ كما تحمد الأنساب الفاضلة؛ لأنها مظنة عمل الخير، فأما إذا ظهر العمل فالجزاء عليه، وأكرم الخلق عند اللّه أتقاهم‏.‏

وأما أولاد المشركين، فأصح الأجوبة فيهم جواب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين‏:‏ ‏(‏ما من مولود إلا يولد على الفطرة‏)‏ الحديث، قيل‏:‏ يا رسول اللّه، أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اللّه أعلم بما كانوا عاملين‏)‏‏.‏ فلا يحكم على معين منهم لا بجنة ولا بنار‏.‏ ويروى‏:‏ ‏(‏أنهم يوم القيامة يمتحنون في عرصات القيامة، فمن أطاع اللّه حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار‏)‏‏.‏

ودلت الأحاديث الصحيحة أن بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار‏.‏ والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البُكْرَة والعشيَّة بنور يظهر من قبل العرش، واللّه أعلم‏.‏

/ وَسُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن رجل قيل له‏:‏ إنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ويتمتعون، ولا يبولون ولا يَتغَوَّطون‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ من أكل وشرب بال وتَغَوَّطَ‏.‏ ثم قيل له‏:‏ إن في الجنة طيورًا، إذا اشتهى صار قدامه على أي صورة أراد من الأطعمة وغيرها، فقال‏:‏ هذا فُشَار‏ [‏الفُشَار‏:‏ الذي تستعمله العامة، ليس من كلام العرب‏]‏‏.‏ هل بجحده هذا يكفر ويجب قتله أم لا‏؟‏

فَأَجَــابَ‏:‏

الأكل والشرب في الجنة ثابت بكتاب اللّه، وسنة رسوله، وإجماع المسلمين‏.‏ وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب، كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبَصُقون، لم يخالف من المؤمنين باللّه ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين‏:‏ إما كافر، وإما منافق‏.‏

أما الكافر، فإن اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في/الجنة، يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها‏.‏

وأما طوائف من الكفار، وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم، فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط‏.‏

وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم، ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد‏.‏ وقد بين اللّه ـ تعالى ـ في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح، والأجساد، ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك؛ بيانًا في غاية التمام والكمال‏.‏

وأما المنافقون من هذه الأمة، الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون‏:‏ هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام، وطائفة ممن ضاهوهم، من كاتب، أو متطبب، أو متكلم، أو متصوف ـ كأصحاب‏ [رسائل إخوان الصفا] ‏وغيرهم ـ أو منافق‏.‏ وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بيانًا شَافيًا قاطعًا للعذر، /وتواتر ذلك عند أمته، خاصها وعامها‏.‏ وقد ناظره بعض اليهود في جنس هذه المسألة وقال‏:‏ يا محمد، أنت تقول‏:‏ إن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ومن يأكل ويشرب لابد له من خلاء‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رَشْح كرشح المِسْك‏)‏‏ .‏

ويجب على ولي الأمر قتل من أنكر ذلك، ولو أظهر التصديق بألفاظه، فكيف بمن ينكر الجميع‏؟‏ واللّه أعلم‏.‏

/ سُئلَ رَحمَهُ اللَّهُ‏:‏ هل أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون بتلذذ كالدنيا‏؟‏

وهل تبعث هذه الأجسام بعينها‏؟‏وهل عيسى حي أم ميت ‏؟‏ وهل إذا نزل يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم أم بشريعته الأولى، أم تحدث له شريعة‏؟‏

فأَجَابَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏

أما أهل الجنة فيأكلون، ويشربون، وينكحون، متنعمين بذلك بإجماع المسلمين، كما نطق به الكتاب والسنة، وإنما ينكر ذلك من ينكره من اليهود والنصارى‏.‏

وهذه الأجساد هي التي تبعث كما نطق به الكتاب والسنة‏.‏

وعيسى حيٌّ في السماء لم يمت بَعدُ، وإذا نزل من السماء لم يحكم إلا بالكتاب والسنة، لا بشىء يخالف ذلك، واللّه أعلم‏.‏

/قال شيخ الإسلام ـ قدسً اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏

 فَصـل

وأفضل الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه خَيْر البَرِيَّة‏)‏ ‏.‏

وكذلك قال العلماء، منهم‏:‏ الربيع بن خُثَيْم قال‏:‏ لا أفضل على نبينا أحدًا، ولا أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحدًا‏.‏

/ سئِلَ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ فيمن يقول‏:‏ إن غير الأنبياء يبلغ درجتهم بحيث يأمنون مكر اللّه‏:‏ هل يأثم بهذا الاعتقاد‏؟‏

فأَجَـاب ‏:‏

من اعتقد أن في أولياء اللّه من لا يجب عليه اتباع المرسلين وطاعتهم فهو كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، مثل من يعتقد أن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يستغنى عن متابعته كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، فإن موسى لم تكن دعوته عامة، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مبعوث إلى كل أحد، فيجب على كل أحد متابعة أمره، وإذا كان من اعتقد سقوط طاعته عنه كافرًا، فكيف من اعتقد أنه أفضل منه، أو أنه يصير مثله‏!‏‏.‏

وأما من اعتقد أن من الأولياء من يعلم أنه من أهل الجنة، كما بشر غير واحد من الصحابة بالجنة، وكما قد يعرف اللّه بعض الأولياء أنه من أهل الجنة، فهذا لا يكفر‏.‏

ومع هذا، فلابد له من خشية اللّه ـ تعالى، واللّه أعلم‏.‏

/ سئلَ الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن رجل قال‏:‏ إن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ معصومون من الكبائر، دون الصغائر، فكفَّره رجل بهذه، فهل قائل ذلك مخطئ أو مصيب‏؟‏ وهل قال أحد منهم بعصمة الأنبياء مطلقًا‏؟‏ وما الصواب في ذلك‏؟‏

فَأَجَــاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، ليس هو كافرًا باتفاق أهل الدين، ولا هذا من مسائل السب المتنازع في استتابة قائله بلا نزاع، كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله مع مبالغتهم في القول بالعصمة، وفي عقوبة السَّابِّ؛ ومع هذا فهم متفقون على أن القول بمثل ذلك ليس هو من مسائل السب والعقوبة، فضلا أن يكون قائل ذلك كافرًا، أو فاسقًا؛ فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي‏ [‏هو أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي، ويلقب بسيف الدين الآمدي، كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي، قام مدة ببغداد، ثم انحدر إلى الشام واشتغل بفنون المعقول، ثم انتقل إلى مصر، وله مصنفات كثيرة في أصول الفقه والدين والمنطق وغيرها، ولد سنة 551هـ وتوفي سنة 631 هـ]‏ أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو ـ أيضًا ـ قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول، ولم ينقل عنهم ما يوافق القول‏.‏ ‏.‏ ‏.‏‏.‏[بياض قدر ستة أسطر]‏

/وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة، ثم عن بعض المعتزلة، ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين‏.‏

وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء، أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر ولا يقرون عليها، ولا يقولون‏:‏ إنها لا تقع بحال، وأول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقًا، وأعظمهم قولًا لذلك الرافضةُ، فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل‏.‏

وينقلون ذلك إلى من يعتقدون إمامته، وقالوا بعصمة علىّ، والاثنى عشر، ثم الإسماعيلية الذين كانوا ملوك القاهرة، وكانوا يزعمون أنهم خلفاء علويون فاطميون، وهم عند أهل العلم من ذرية عُبَيد اللّه القَدَّاح، كانوا هم وأتباعهم يقولون بمثل هذه العصمة لأئمتهم ونحوهم، مع كونهم كما قال فيهم أبو حامد الغزالي ـ في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم - قال‏:‏ ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض‏.‏

وقد صنف القاضي أبو يعلى وصف مذاهبهم في كتبه، وكذلك غير هؤلاء من علماء المسلمين، فهؤلاء وأمثالهم من الغلاة القائلين بالعصمة، وقد يُكفِّرون من ينكر القول بها، وهؤلاء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين، فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيًا لهؤلاء الإسماعيلية، والنصيرية، والرافضة، والاثنى عشرية، ليس هو قول أحد من أصحاب أبي حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا المتكلمين ـ المنتسبين إلى السنة المشهورين ـ كأصحاب /أبي محمد عبد اللّه بن سعيد بن كُلاب، وأبي الحسن على بن إسماعيل الأشعري، وأبي عبد اللّه محمد بن كَرَّام [‏هو أبو عبد الله محمد بن كَرَّام السجستاني، شيخ الكَرّامية، ساقط الحديث على بدعه، كان يكثر عن الكذابين، قال عنه ابن حبان‏:‏ خذل حتى أخذ من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها‏]، وغير هؤلاء، ولا أئمة التفسير ولا الحديث، ولا التصوف‏.‏ ليس التكفير بهذه المسألة قول هؤلاء، فالمكفر بمثل ذلك يستتاب، فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا، إلا أن يظهر منه ما يقتضى كفره وزندقته، فيكون حكمه حكم أمثاله‏.‏

وكذلك المُفَسِّق بمثل هذا القول يجب أن يُعَزَّر بعد إقامة الحجة عليه، فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة الإسلام‏.‏

وأما التصويب والتخطئة في ذلك، فهو من كلام العلماء الحافظين من علماء المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل لا تحتمله هذه الفتوى، واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن رجلين تنازعًا في أمر نبي اللّه عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ فقال أحدهما‏:‏ إن عيسى ابن مريم توفاه اللّه ثم رفعه إليه، وقال الآخر‏:‏ بل رفعه إليه حيا‏.‏ فما الصواب في ذلك‏؟‏ وهل رفعه بجسده، أو روحه أم لا‏؟‏ وما الدليل على هذا وهذا ‏؟‏ وما تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏‏؟‏

فَأَجَـابَ‏:‏

الحمد للّه، عيسى ـ عليه السلام ـ حي، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا، وإمامًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية‏)‏، وثبت في الصحيح عنه‏:‏ أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وأنه يقتل الدَّجَّال‏.‏ ومن فارقت روحه جسده لم ينزل جسده من السماء، وإذا أحيى فإنه يقوم من قبره‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، فهذا دليل على أنه لم يَعْنِ بذلك الموت؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإن اللّه يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء، فعلم أن ليس في ذلك خاصية، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، ولو /كان قد فارقت روحه جسده لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء، أو غيره من الأنبياء‏.‏

وقد قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏157، 158‏]‏، فقوله هنا‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ يبين أنه رفع بدنه وروحه، كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال‏:‏ وما قتلوه وما صلبوه، بل مات‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ يبين أنه رفع بدنه وروحه، كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه‏.‏

ولهذا قال من قال من العلماء‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ قابضك، أي‏:‏ قابض روحك وبدنك، يقال‏:‏ تَوَفَّيْتُ الحسابَ واستوفيتُه، ولفظ التَّوَفِّي لا يقتضي نفسه تَوفِّي الروح دون البدن، ولا تَوَفِّيهما جميعًا، إلا بقرينة منفصلة‏.‏

وقد يراد به توفي النوم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏، وقد ذكروا في صفة توفي المسيح ما هو مذكور في موضعه‏.‏ واللّه ـ تعالى ـ أعلم‏.‏

/ سُئلَ الشَّيخُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏

هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه ـ تبارك وتعالى ـ أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه، ثم ماتا بعد ذلك ‏؟‏

فَأَجَـاب‏:‏

لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث، بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر ـ يعني الخطيب ـ في كتابه [‏السابق واللاحق‏]‏، وذكره أبو القاسم السهيلي في [‏شرح السيرة] ‏بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد اللّه القرطبي في‏ [‏التذكرة]‏، وأمثال هذه المواضع، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبًا، كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث، لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين، فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فإنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة من وجهين‏:‏

/من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت، فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب‏.‏

والخطيب البغدادي هو في كتاب‏ [السابق واللاحق]‏ مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص واحد، سواء كان الذي يروونه صدقًا أو كذبًا، وابن شاهين يروي الغَثَّ والسَّمِين، والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه مجاهيل‏.‏

ثم هذا خلاف الكتاب، والسنة الصحيحة والإجماع‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏

فبين اللّه تعالى‏:‏ أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏‏.‏

فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت‏؟‏ ونحو ذلك من النصوص‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أين أبي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن أباك في النار‏)‏‏.‏ فلما أدبر دعاه فقال‏:‏ ‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏استأذنت ربي أن أزور قبر أمي، /فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكِّر الآخرة‏)‏‏.‏

وفي الحديث ـ الذي في المسند وغيره ـ قال‏:‏ ‏(‏إن أمي مع أمك في النار‏)‏، فإن قيل‏:‏ هذا في عام الفتح والإحياء كان بعد ذلك في حجة الوداع؛ ولهذا ذكر ذلك من ذكره، وبهذا اعتذر صاحب التذكرة، وهذا باطل لوجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن الخبر عما كان ويكون لا يدخله نسخ، كقوله في أبي لهب‏:‏ ‏{‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏، وكقوله في الوليد‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وكذلك في‏:‏ ‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏ و ‏(‏إن أمي وأمك في النار‏)‏، وهذا ليس خبرًا عن نار يخرج منها صاحبها كأهل الكبائر؛ لأنه لو كان كذلك لجاز الاستغفار لهما، ولو كان قد سبق في علم اللّه إيمانهما لم ينهه عن ذلك، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنا فإن اللّه يغفر له، فلا يكون الاستغفار له ممتنعًا‏.‏

الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه؛ لأنها كانت بطريقه بالحَجُون عند مكة عام الفتح، وأما أبوه فلم يكن هناك، ولم يزره؛ إذ كان مدفونًا بالشام في غير طريقه، فكيف يقال‏:‏ أحيى له ‏؟‏

الثالث‏:‏ أنهما لو كانا مؤمنين إيمانًا ينفع، كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه‏:‏ حمزة والعباس، وهذا أبعد مما يقوله الجهال من الرافضة ونحوهم، /من أن أبا طالب آمن، ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف، وفيه أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت‏.‏

ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ عمك الشيخ الضال كان ينفعك فهل نفعته بشىء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏وجدته في غمرة من نار فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار، في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏‏.‏

هذا باطل مخالف لما في الصحيح وغيره، فإنه كان آخر شىء قاله‏:‏ هو على ملة عبد المطلب، وأن العباس لم يشهد موته، مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس، فلما كان من العلم المتواتر المستفيض بين الأمة ـ خلفًا عن سلف ـ أنه لم يذكر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين، كحمزة، والعباس، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين ـ رضي اللّه عنهم ـ كان هذا من أبين الأدلة على أن ذلك كذب‏.‏

الرابع‏:‏ أن اللّه تعالى قال‏:‏‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

فأمر بالتأسى بإبراهيم والذين معه، إلا في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار، وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه‏.‏ واللّه أعلم ‏.‏

/ سُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن هذه الأحاديث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مـوسى ـ عليه السلام ـ وهو يصلي في قبره، ورآه وهو يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك بعض الأنبياء‏.‏ وهل إذا مات أحد يبقى له عمل، والحديث أنه ينقطع عمله‏؟‏ وهل ينتفع بهذه الصلاة والطواف‏؟‏ وهل رأى الأنبياء بأجسادهم في هذه الأماكن أم بأرواحهم‏؟‏

فأجَاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، أما رؤيا موسى ـ عليه السلام ـ في الطواف، فهذا كان رؤيا منام، لم يكن ليلة المعراج ـ كذلك جاء مفسرا ـ كما رأى المسيح أيضًا، ورأى الدجال‏.‏ وأما رؤيته ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء ـ لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة ـ أو بالعكس، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم‏.‏

وقد قال بعض الناس‏:‏ لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور، وهذا ليس بشىء‏.‏

/ لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده، وكذلك قد قيل في إدريس‏.‏

وأما إبراهيم وموسى وغيرهما، فهم مدفونون في الأرض‏.‏

والمسيح ـ صلى الله عليه وسلم وعلى سائر النبيين ـ لابد أن ينزل إلى الأرض على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة؛ ولهذا كان في السماء الثانية مع أنه أفضل من يوسف، وإدريس، وهارون؛ لأنه يريد النزول إلى الأرض قبل يوم القيامة، بخلاف غيره‏.‏

وآدم كان في سماء الدنيا؛ لأن نَسَم بنيه تعرض عليه ـ أرواح السعداء ـ والأشقياء لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ـ فلا بد إذا عرضوا عليه أن يكون قريبًا منهم‏.‏

وأما كونه رأى موسى قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء أيضًا، فهذا لا منافاة بينهما، فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة، في اللحظة الواحدة تصعد، وتهبط كالملك، ليست في ذلك كالبدن‏.‏

وقد بسطت الكلام على أحكام الأرواح بعد مفارقة الأبدان في غير هذا الموضع، وذكرت بعض ما في ذلك من الأحاديث، والآثار، والدلائل‏.‏

وهذه الصلاة ونحوها مما يتمتع بها الميت، ويتنعم بها كما يتنعم أهل الجنة /بالتسبيح، فإنهم يُلْهَمون التسبيح كما يلهم الناس في الدنيا النَّفَس، فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له‏)‏، يريد به العمل الذي يكون له ثواب، لم يرد به نفس العمل الذي يتنعم به، فإن أهل الجنة يتنعمون بالنظر إلى اللّه، ويتنعمون بذكره وتسبيحه، ويتنعمون بقراءة القرآن، ويقال لقارئ القرآن‏:‏ اقرأ وارْقَ، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها‏.‏

ويتنعمون بمخاطبتهم لربهم ومناجاته، وإن كانت هذه الأمور في الدنيا أعمالًا يترتب عليها الثواب فهي في الآخرة أعمال يتنعم بها صاحبها أعظم من أكله وشربه ونكاحه، وهذه كلها أعمال أيضًا والأكل والشرب والنكاح في الدنيا مما يؤمر به ويثاب عليه مع النية الصالحة، وهو في الآخرة نفس الثواب الذي يتنعم به‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة، فإن هذه المسائل لها بسط طويل‏.‏

/ سُئِلَ الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن الذبيح من ولد خليل اللّه إبراهيم ـ عليه السلام ـ هل هو إسماعيل، أو إسحاق‏؟‏

فَأَجَـاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء، وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف، وذكر أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد، ونصر أنه إسحاق، إتباعًا لأبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر اتبع محمد بن جرير‏.‏ ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحاق، وإنما ينصره هذان، ومن اتبعهما، ويحكى ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه‏.‏

وذكر الشريف أبو علي بن أبي يوسف‏:‏ أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل، وهذا هو الذي رواه عبد اللّه بن أحمد عن أبيه، قال‏:‏ مذهب أبي أنه إسماعيل، وفي الجملة فالنزاع فيها مشهور، لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل، وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة، وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب‏.‏

/وأيضا، فإن فيها أنه قال لإبراهيم‏:‏ اذبح ابنك وحيدك‏.‏ وفي ترجمة أخرى‏:‏ بِكْرك، وإسماعيل هو الذي كان وحيده وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، لكن أهل الكتاب حرَّفوا، فزادوا إسحاق، فتلقى ذلك عنهم من تلقاه، وشاع عند بعض المسلمين أنه إسحاق، وأصله من تحريف أهل الكتاب‏.‏

ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 101‏]‏، وقد انطوت البشارة على ثلاث‏:‏ على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليمًا‏.‏ وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏‏؟‏ وقيل‏:‏ لم ينعت اللّه الأنبياء بأقل من الحلم، وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏، ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏ لأن الحادثة شهدت بحلمهما‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ‏] ‏‏{‏الصافات 107-113‏]‏‏.‏

فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أولا، فلما استوفى في ذلك قال‏:‏ /‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112، 113‏]‏‏.‏

فبين أنهما بشارتان‏:‏ بشارة بالذبيح، وبشارة ثانية بإسحاق، وهذا بيّن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع، وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، كما في سورة هود، من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏، فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفًا للوعد في يعقوب، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الحجر‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ‏{‏‏[‏الحجر‏:‏ 53-55‏]‏، ولم يذكر أنه الذبيح، ثم لما ذكر البشارتين جميعًا‏:‏ البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده، كان هذا من الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح‏.‏

ويؤيد ذلك أنه ذكر هبته وهبة يعقوب لإبراهيم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 27‏]‏، ولم يذكر اللّه الذبيح‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع، والتخصيص لابد له من حكمة، /وهذا مما يقوي اقتران الوصفين، والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خلق الذبيح‏.‏

وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 85‏]‏، وهذا أيضًا وجه ثالث فإنه قال في الذبيح‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏، وقد وصف اللّه إسماعيل أنه من الصابرين، ووصف اللّه ـ تعالى ـ إسماعيل أيضًا بصدق الوعد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن البشارة بإسحاق كانت معجزة؛ لأن العجوز عقيم؛ ولهذا قال الخليل ـ عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏54‏]‏، وقالت امرأته‏:‏‏}‏ أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏، وقد سبق أن البشارة بإسحاق في حال الكِبَر، وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته‏.‏

وأما البشارة بالذبيح، فكانت لإبراهيم ـ عليه السلام ـ وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة به، وهذا مما يوافق ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصحيح وغيره‏:‏ من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة، فذهب إبراهيم /بإسماعيل وأمه إلى مكة، وهناك أمر بالذبح‏.‏ وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك‏.‏

ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحاق، أن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏، فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه‏؟‏ والبشارة بيعقوب تقتضى أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب، ولا خلاف بين الناس أن قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب، بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم ـ عليه السلام ـ وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب‏.‏

ومما يدل على ذلك‏:‏ أن قصة الذبيح كانت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن‏:‏ ‏(‏إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي‏)‏‏.‏

ولهذا جعلت مني محلا للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن‏.‏

ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة، لا من أهل الكتاب، ولا غيرهم، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام، فهذا افتراء‏.‏ فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك / الجبل، وربما جعل مَنْسَكًا كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر‏.‏

وفي المسألة دلائل أخرى على ما ذكرناه، وأسئلة أوردها طائفة؛ كابن جرير، والقاضي أبي يعلى، والسهيلي، ولكن لا يتسع هذا الموضع لذكرها والجواب عنها، واللّه ـ عز وجل ـ أعلم‏.‏

والحمد للّه رب العالمين‏.‏ وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا‏.‏